فصل: فصل: ذكر بعض الْأَخْبَار والْآثَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: ذكر بعض الْأَخْبَار والْآثَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي:

ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بعد مَا طرد الْأَدِلَّة آحادا من الْأَخْبَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي، وكل وَاحِد مِنْهَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَكِن يتَبَيَّن بجملتها استفاضة الْمَعْنى، وَإِن لم يستفض كل خبر على حياله.
فَمِنْهَا مَا يرويهِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا ورد حكم. نظرت فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن وجدت فِيهِ مَا أقضى بِهِ نظرت فِي سنة رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن وجدت فِيهَا مَا اقضى بِهِ قضيت بِهِ، وَإِن أعياني ذَلِك، سَأَلت النَّاس، هَل علمْتُم أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي ذَلِك قولا، فَإِن لم أجد استشرت الْعلمَاء. فَإِن أجمع رَأْيهمْ على شَيْء قضيت بِهِ وَهَذَا تَصْرِيح بإجماعهم على الرَّأْي.
وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يفعل مثل ذَلِك. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من عرض لَهُ قَضَاء فليقض بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله عز وَجل فليقض بِمَا قضى بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) وَلم يقْض بِهِ نبيه وَلَا الصالحون فليجتهد بِرَأْيهِ.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يفعل ذَلِك على التَّرْتِيب الَّذِي روينَاهُ.
وَكتب عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ كتابا مَشْهُورا، وَفِيه الْفَهم الْفَهم فِيمَا أدلى إِلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآن وَلَا سنة.
ثمَّ قايس الْأُمُور عِنْد ذَلِك، واعرف الْأَمْثَال والأشباه، واعمد إِلَى أشبههَا بِالْحَقِّ وَهَذَا تَصْرِيح بِالْأَمر بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ عمر لعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا إِنِّي رَأَيْت فِي الْجد رَأيا، فَاتبعُوني فَقَالَ عُثْمَان: إِن نتبع رَأْيك فرأيك سديد، وَإِن نتبع رَأْي من كَانَ قبلك يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ - فَنعم ذُو الرَّأْي كَانَ .
وَرُوِيَ عَن زَاذَان أَنه قَالَ: تَذَاكر الْعلمَاء الْخِيَار عِنْد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ عَليّ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر قد سَأَلَني عَنهُ، فَقلت لَهُ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَهُوَ أَحَق بهَا فَبَايَعته. فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَيّ وَعلمت أَنِّي أسئل عَن الْفروج، عدت إِلَى مَا كنت أرى فَقَالُوا: أَمر جامعت عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتركت رَأْيك لَهُ، أحب إِلَيْنَا من أَمر تفردت بِهِ، فَضَحِك وَقَالَ: أما أَنه أرسل إِلَى زيد بن ثَابت فخالقي وإياه، فَقَالَ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَزوجهَا أَحَق بهَا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ ثَلَاثَة لَا تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره.
وروى عُبَيْدَة عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: استشارني عمر فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد، فأجمعت أَنا وَهُوَ على عتقهَا، ثمَّ رَأَيْت بعد، أَن أرقهن. فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة: رأى ذَوي عدل أحب إِلَى من رأى عدل وَاحِد.
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان.
وَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي ديات الْأَسْنَان لما قسمهَا عمر رَضِي الله عَنهُ على اخْتِلَاف مَنَافِعهَا هلا اعتبرها بالأصابع، عقلهَا سَوَاء وَإِن اخْتلفت مَنَافِعهَا.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس " أَلا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الإبن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا.
فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأَمْثَاله مِمَّا أضربنا عَنهُ، يَقْتَضِي خوض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي طرق الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي الْحَوَادِث الَّتِي عدموا فِيهَا النُّصُوص.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قد صَار تمسكهم بِالرَّأْيِ وتسويغهم التَّعَلُّق بطرق الإجتهاد مدْركا ضَرُورَة كَمَا أدْرك اخْتلَافهمْ على الْجُمْلَة ضَرُورَة، وَإِن كَانَت صُورَة الِاخْتِلَاف نقلت آحادا.
وَمِمَّا اعْترض بِهِ نفاة الْقيَاس على هَذِه الدّلَالَة أَن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم كَانُوا يجتهدون ويعملون بِمَا يرَوْنَ، بيد أَن طَرِيق إجتهادهم كَانَ جمع النُّصُوص والبحث عَنْهَا وَحمل الْعُمُوم على الْخُصُوص، وَذكر النَّاسِخ والمنسوخ، واستنباط دَلِيل الْخطاب، وَمَفْهُومه من الْمَنْطُوق بِهِ إِلَى غير ذَلِك من طرق التَّصَرُّف والألفاظ والظواهر؟
فَيُقَال لَهُم: قد فرط مِنْكُم هَذَا السُّؤَال. وَنحن الْآن نقُول فِي جَوَابه، إِن زعمتم معاشرة نفاة الْقيَاس أَنه لم يتَّفق فِي زمن أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم حَادِثَة شاغرة عَن النُّصُوص ووجوه خطاب الْكتاب وَالسّنة منطوقا ومفهوما وخصوصا وعموما، فقد جحدتم الضَّرُورَة.
وَكَذَلِكَ إِن أنكرتم تمسكهم فِي أَمْثَال هَذِه الْحَوَادِث بطرق الْأَمْثَال والأشباه، فقد باهتم مباهتة عَظِيمَة. وأفصحتم بمراغمة الضَّرُورَة. وَلَيْسَ علينا إِلَّا إِيضَاح الطّرق. فَإِن باهتم، قطع الْكَلَام عَنْكُم.
على أَنا نقُول: وَالَّذِي تمسكوا بِهِ كَانَ من الْأَدِلَّة القطعية أَو لم يكن مِنْهَا؟ وَقد سبق إستقصاونا لذَلِك مَا يُغني عَن إِعَادَته.

.فصل: مُشْتَمل على ذكر مَا يتَمَسَّك بِهِ نفاة الْقيَاس من الظَّوَاهِر:

فمما تمسكوا بِهِ، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا من صُدُور الرِّجَال، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء، فَإِذا لم يبْقى عَالم، اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا. فَجعل الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ضلالا.
وَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِكِتَاب الله، وبرهة بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبرهة بِالرَّأْيِ، فَإِذا فعلوا ذَلِك، فقد ضلوا».
وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ «تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة أضرها على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور بآرائهم، فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال».
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن جبل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ حِين بَعثه إِلَى الْيمن «إِذا جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاكْتُبْ إِلَيّ فِي ذَلِك».
قَالُوا: وروى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «لم يزل أَمر بني إِسْرَائِيل مُسْتَقِيمًا حَتَّى حدث فيهم السبايا، فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلو».
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «مَا تركت شَيْئا مِمَّا أَمركُم الله بِهِ إِلَّا وَقد أَمرتكُم بِهِ، وَلَا شَيْئا مِمَّا نهاكم عَنهُ إِلَّا وَقد نَهَيْتُكُمْ عَنهُ».
قَالُوا: فَهَذَا دَلِيل على أَن مَقَاصِد الْأَحْكَام محصورة فِي كتاب الله وَسنة نبيه، وَلَا تعدوهما.
وَمِمَّا اعتصموا بِهِ من وَجه الْآثَار، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: "أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني، إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي".
وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ " إيَّاكُمْ وَأصحاب الرَّأْي، فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن، أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فضلوا وأضلوا".
وَعَن عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا "لَو كَانَ الدّين بِالْقِيَاسِ لَكَانَ مسح بَاطِن الْخُف أولى من ظَاهره". قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح ظاهرهما.
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " إِذا مضى قراؤكم وعلماؤكم فيتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيقيسون مَا لم يكن بِمَا كَانَ، فَإِن علمْتُم بِالْقِيَاسِ أحللتم كثيرا مِمَّا حرم الله، وحرمتم كثيرا مِمَّا أحل الله.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ " أَن الله لم يَجْعَل لأحد أَن يحكم فِي دين الله بِرَأْيهِ، وَقَالَ لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أرك الله} وَلم يقل بِمَا رَأَيْت.
فَهَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا تمسكوا بِهِ.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه:
أَحدهَا أَن نقُول: هَذَا تعرض مِنْك لمعارضة مَا نقل عَن الصَّحَابَة ضَرُورَة وتواترا، بآحاد من الْآثَار، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم. ويداني مَا تمسكتم بِهِ من الْآثَار مَا نقل عَن الصَّحَابَة من ذمّ الإختلاف وَالنَّدْب إِلَى اتِّحَاد الْكَلِمَة، مَعَ علمنَا ضَرُورَة فِي بعض الْحَوَادِث باختلافهم.
على أَن مُعظم مَا رَوَوْهُ من الْأَخْبَار والْآثَار مطعونة، لم يتقبلها أهل الصِّنَاعَة فإياك وَأَن تكثرت بِمَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار، فَإِنَّهُم عارضوا بهَا المستفيض الْمُتَوَاتر. على أَنا سنؤمن إِلَى طرق تَأْوِيلهَا.
فَأَما مَا تمسكوا بِهِ من الْأَخْبَار، فنعارضهم أَولا، بِمَا هُوَ أثبت مِنْهَا نقلا وَأَصَح رِوَايَة من الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن «بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فأجتهد رَأْيِي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضاه الله وَرَسُوله».
وَهَذَا حَدِيث صَحِيح متلقى بِالْقبُولِ، صَرِيح فِي إِثْبَات الْقيَاس.
وَقد حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للسَّائِل عَن قبْلَة الصَّائِم «أَرَأَيْت لَو تمضمضت؟» وَهَذَا قِيَاس مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ للخثعمية الَّتِي أَحرمت عَن أَبِيهَا «أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته؟» وَهَذَا تَشْبِيه مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِلْحَجِّ بِالدّينِ. إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار الَّتِي يطول تتبعها.
وَأما مَا اعتصموا بِهِ من الْأَخْبَار، فلك فِيهَا طَرِيقَانِ.
أَحدهمَا: أَن لَا تقبلهَا لكَونهَا آحادا. وَقد ثَبت الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تتأولها أسهل المرام، و لَهَا طرق.
أَحدهَا: أَن يحمل على قِيَاس الْجُهَّال، الذاهبين عَن النُّصُوص مَعَ ثُبُوتهَا الذاهلين عَن طرق الإستنباط. وعَلى هَذَا يدل فحوى مُعظم الْأَحَادِيث الَّتِي تمسكوا بهَا. وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «اتَّخذُوا رُؤَسَاء جُهَّالًا» وَنحن نعلم أَنه لَا سَبِيل إِلَى حمل ذَلِك على عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فَهَذَا وَجه.
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يحمل على الْقيَاس مَعَ وجود النُّصُوص، وَترك الْبَحْث عَنْهَا، وَعَلِيهِ تدل أخبارهم إِذا تتبعتها.
وَالْوَجْه الآخر أَن يحمل على الرَّأْي الْمُجَرّد، والإستحسان الَّذِي هُوَ آئل إِلَى التشهي دون سَبِيل الاستنباط.
وَمِمَّا حمل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إخبارهم عَلَيْهِ أَن قَالَ مَا يؤمنكم أَنكُمْ لما اعتبرتم منع الْقيَاس عِنْد فقد النُّصُوص بِمَنْعه عِنْد وجودهَا كُنْتُم من هَذَا الْوَجْه قائسين، وَإِيَّاكُم عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَنْعِ من الْقيَاس.
فوضح طَرِيق التَّأْوِيل، وَتبين أَن مَا اعتصموا بِهِ مِمَّا لَا يسوغ مُعَارضَة الْإِجْمَاع بِهِ.
وَقد ذكر الطَّبَرِيّ فِي خلل الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث معَاذ فِي إِثْبَات الْقيَاس، ثمَّ وَجه على نَفسه سؤالا فَقَالَ: فَلَو قَالُوا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، لَقلت فِي جوابهم: يجوز الِاسْتِدْلَال بأخبار الْآحَاد فِي إِثْبَات الْقيَاس كَمَا يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا فِي إِثْبَات الْأَحْكَام.
وَهَذِه هفوة عَظِيمَة. وَسَنذكر فِي كتاب الِاجْتِهَاد أَن أصُول أَدِلَّة الشَّرِيعَة لَا تثبت إِلَّا بِمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَدِلَّة القاطعة، وَمن قَالَ غير ذَلِك فقد زل زلَّة عَظِيمَة.
وَإِنَّمَا أوردنا ذَلِك لننبهك على وَجه خطئه.
وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ جملَة من الظَّوَاهِر لمنكري الْقيَاس والفصل عَنْهَا وقابلها بظواهر أوضح مِنْهَا فِي الْآي وَالْأَخْبَار. وَلَو تتبعناها لخرج الْمَذْهَب عَن حد الْمطلب. وَفِيمَا قدمْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي الْكَلَام على القاساني والنهرواني وَمن تبعهما وَقَالَ بقولهمَا:

اعْلَم أَن هذَيْن قد ذَهَبا مذهبا آخر فِي أَمر الأقيسمة فَقَالُوا: كل حكم نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شخص بِعَيْنِه أَو قَضِيَّة بِعَينهَا وَنقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْلِيل الحكم فِي ذَلِك الشَّخْص الْمعِين، فنعلم أَن الْعلَّة الْمَذْكُورَة فِيهِ تعم فِيهِ وَفِي غَيره وَإِن لم يعمها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظَة قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذا وَردت عَنهُ لَفْظَة منبئة عَن التَّعْلِيل وَإِن لم يكن صَرِيحًا فِيهَا. وَكَذَلِكَ إِذا نَقله الرَّاوِي الموثوق بِهِ فِي معرض يَقْتَضِي التَّحْلِيل، كَمَا روى أَن ماعزا زنا، فرجمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكما روى أَنه سَهَا فَسجدَ وَهَذِه الْأَلْفَاظ وأمثالها منبئة عَن التَّعْلِيل، إِذْ لَا فصل بَين قَول الْقَائِل. رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماعزا لزناه وَبَين أَن يَقُول زنا فرجمه.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فيهمَا وَفِي مَذْهَبهمَا.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَن مَا صَارُوا إِلَيْهِ لَيْسَ بقول بِالْقِيَاسِ. وَإِنَّمَا هُوَ تتبع مِنْهُم للنَّص وَذهب بعض القائسين إِلَى أَن مَا قَالُوهُ، قَول بِالْقِيَاسِ على تَفْصِيل فكأنهم قبلوا بعض أَنْوَاع الْقيَاس، وردوا بَعْضهَا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الصَّحِيح عندنَا أَن نقُول: إِن قَالُوا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نَص على تَعْلِيل حكم فِي شخص معِين. وَلم يعمم الْعلَّة فِي النَّاس كَافَّة، وَلم يسْبق مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تنصيص صَرِيح على طرد علله الوارده فِي الْأَشْخَاص المعينين، فَمن عدى الْعِلَل - وَالْحَالة هَذِه - عَن مواردها، فَهُوَ قَائِل بطرد الْقيَاس لَا محَالة.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنا لَو تتبعنا النُّصُوص لم ترد على مقتضياتها فِي اختصاصها وعمومها، فَإِذا وَردت الْعلَّة مُخْتَصَّة بشخص معِين، فَلَيْسَ فِي قَضِيَّة اللَّفْظ وصيغته تعميمها.
فَمن عَداهَا عَن موردها، لم يكن متمسكا بِمُوجب اللَّفْظ، بل كَانَ معتصما بِضَرْب من الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رجمت ماعزا لانه زنا، فنعلم بِمُقْتَضى اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة أَن لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقتضى أَن يرْجم كل زَان.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك فِي مُوجب الاطلاق، أَن من قَالَ لمن يخاطبه: لَا تَأْكُل هَذِه البقلة، فَإِنَّهَا سم. فنعلم أَن ذَلِك يتَضَمَّن النَّهْي عَن تنَاول جملَة السم وَأَن نَص الْمُخَاطب على عين وَاحِدَة.
فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا فِيهِ كلامنا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد الدَّعْوَى، فلسنا نسلم أَن لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَعْلِيل رجم مَاعِز لزناه يَقْتَضِي تَعْمِيم ذَلِك الحكم فِيمَن عداهُ. وَلَكِن إِذا خصص تَعْلِيله بِهِ، فيسوغ أَن يحمل ذَلِك على أَنه جعل الزِّنَا فِي حَقه عَلامَة للْحكم الَّذِي جرى عَلَيْهِ تَخْصِيصًا.
والأقيسة الشَّرْعِيَّة أَمَارَات تنصب وَلَا يجب تعميمها، بل يسوغ نصبها فِي حق اقوام مخصوصين، ويسوغ نصبها عُمُوما وشمولا فَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه فِي الأمارات من حَيْثُ الْجَوَاز الْعقلِيّ، فيتقابل الْجَوَاز، وَلَا يبْقى لنا إِلَّا اتِّبَاع صِيغَة اللَّفْظ.
وَأما مَا تمثلها بِهِ من قَول الْقَائِل لمن يخاطبه لَا تَأْكُل ذَلِك فَإِنَّهُ سم، فَلَا معتصم لَهُم فِيهِ، وَأول مَا نذكرهُ أَن نقابله بِمثلِهِ، فَنَقُول: لَو قَالَ سيد العَبْد لوَكِيله «بِعْ هَذَا العَبْد فَإِنَّهُ أسود» لم يكن للْوَكِيل أَن يَبِيع جملَة العبيد السود فِي ملكه، وَإِن علل بيع العَبْد الْمعِين لكَونه أسود، فَهَذَا فِي مُقَابلَة مَا قَالُوا.
ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه لَو سلم لكم فَذَاك لأَنا علمنَا أَن بَعْضنَا فِي مجاري الْعَادَات يرق لبَعض ويبتغي مصْلحَته، ويضبط ذَلِك نظرا من الْأَحْوَال. فَإِذا زجر الزاجر صَاحبه عَن تنَاول السم المجهز، وَقد تقررت من الْأَحْوَال الْمُقْتَضِيَة التوقي بمحاذرة المهالك فِي إشفاق الْبَعْض على الْبَعْض لرقة الجنسية، أَو غَيرهَا من الْأَحْوَال.
فَرُبمَا يفهم مِمَّا ذكرتموه التَّعْلِيل فِي السمُوم أجمع، فَأَما الفاظ صَاحب الشَّرِيعَة فَلَا يسوغ حملهَا على قضايا الْمصَالح، فَإِن الشَّرَائِع على مَذْهَب أهل الْحق، لم تبن على الْمصَالح. وَلم يَتَقَرَّر فِي موارد الشَّرِيعَة من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا تحقق بَين أظهرنَا فَلم يكن لنا أَن نتبع مُوجب اللَّفْظ، خص أَو عَم. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
فَتبين بجملة مَا قُلْنَاهُ، أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْقَوْم، ضرب من الاعتطاف وَلَو قَدرنَا أَن نرد إِلَى النُّصُوص وَالنَّهْي وَالِاعْتِبَار وَالْقِيَاس، لَكنا نخصص الْعِلَل بمواردها.
فَإِن قيل: الستم قُلْتُمْ أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا خَاطب وَاحِدًا من الصَّحَابَة بِحكم وَلم يُوضح اخْتِصَاصه، فَالْحكم يثبت فِي حق الْأمة وهم فِيهِ شرع.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قلتموه من مَذْهَب الْفُقَهَاء. وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ المحصلون أَن الحكم يخْتَص بالمخاطب إِن لم تقم دلَالَة على وجوب تعميمه. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا بَينا.
فَإِن قيل: إِذا رَأَيْتُمْ التَّنْصِيص كَمَا قلتموه، فَقولُوا: أَن الْمنْهِي عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} التأفيف، دون الضَّرْب وأنواع التعنيف، اتبَاعا للنَّص.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، خُرُوج مِنْكُم عَن حد النّظر، فَإِنَّكُم لم تجمعُوا بَين الْمُخْتَلف فِيهِ وَبَين مَا ذكرتموه بِجَامِع يتَعَيَّن علينا فِي حكم النّظر بعده الْفرق والفصل وَلم توردوه نقضا على دلَالَة تمسكنا بهَا.
ثمَّ نقُول: اللُّغَات لَا تثبت بالطرق الَّتِي رمتموها من الِاعْتِبَار، والتمسك بالصور وَلَكِن الْمرجع فِيهَا إِلَى السماع. وَقد عرفنَا ضَرُورَة وبديهة، أَن من وصّى مَأْمُورا بإكرام وَالِديهِ والاجتناب عَن أذاهما، ثمَّ نَص فِي التَّحْرِيم على أقل الرتب، وَهُوَ التأفيف.
فَيعلم مَعَ ذَلِك أَنه رام تَحْرِيم الْقَتْل وَالضَّرْب وضروب التعنيف إِيمَاء مِنْهُ بِذكر الادنى على الْأَعْلَى وَمن جحد ذَلِك فِي موقع اللُّغَة، كَانَ مباهتا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو قدر الْجمع بَين النَّهْي عَن التأفيف والترخص فِي جملَة أَنْوَاع التعنيف مَعَ تَقْدِيم الْأَمر بالإكرام على الْجُمْلَة، عد ذَلِك من متناقض الْكَلَام. وَلَو نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تَخْصِيص التَّعْلِيل بشخص معِين، لم يعد ذَلِك من مُضْطَرب الْكَلَام. فَبَطل مَا قَالُوهُ.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ بِمَا قدمتم طرق الأقيسمة، وأوضحتموها فِي الرَّد على منكريها، فَإِذا نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَقد ثَبت وجوب الْقيَاس وَالِاعْتِبَار - عِلّة فِي شخص معِين، فَهَل يحْتَاج فِي رد غَيره إِلَيْهِ إِلَى استنباط وتحر واجتهاد؟
قُلْنَا: إِذا ثَبت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وتصورت الْحَالة على مَا قلتموه فَكل صُورَة تحقق فِيهَا مثل الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الشَّخْص الْمعِين فتردها فِي الحكم إِلَى مورد النَّص فَسَادًا وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى سلوك طرق الِاجْتِهَاد فِي إِقَامَة الْأَدِلَّة على اثبات عِلّة الاصل، وَرُبمَا يغمض النّظر فِي تَصْوِير الْعِلَل فِي بعض الصُّور، فَإِذا تصورت وَهِي مَنْصُوبَة فِي صور منصوصة، ابتدرنا إِلَى رد الصُّور الَّتِي وجدت فِيهَا الْعِلَل، إِلَى الصُّور المنصوصة فِي التَّعْلِيل، وَلَو لم تكن الْعِلَل منصوصة، لم يسغْ لنا طرد الْقيَاس إِلَّا بعد إِقَامَة الْأَدِلَّة على إِثْبَات عِلّة الأَصْل، على مَا سنوضح طرقها، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَذَا الَّذِي قلتموه آنِفا، ينْقض عَلَيْكُم مَا قدمتموه فِي الْفَصْل الاول، فَإِنَّكُم مهما قُلْتُمْ أَن من وجدت فِيهِ مثل الْعلَّة المنصوبة، لزم إِثْبَات الحكم فِيهِ على البديهة، من غير استنباط اجْتِهَاد فقد وافقتم من قَالَ أَن التَّنْصِيص على الْعلَّة فِي شخص معِين يتَضَمَّن تعديتها.
قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يحط علما بمحصول الْبَاب. فَإنَّا إِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ مَعَ تقديرنا ثُبُوت الأقيسة بالأدلة القاطعة، فَلَو قَدرنَا عدم قيام الْأَدِلَّة على وجوب التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وطرق الِاعْتِبَار، وَردت - وَالْحَالة هَذِه - عِلّة منصوصة فِي شخص معِين، لَكَانَ قَضيته اللَّفْظ لَا تَقْتَضِي تَعديَة الحكم إِلَى من سواهُ. وَهَذَا وَاضح لكل متأمل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل:

ذهب بعض الْقَدَرِيَّة إِلَى الْفَصْل بَين المحللات والمحرمات.
فَقَالَ: إِذا حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، وَبَين حظره وقبحه وَعلله بعلة، فَيلْزم مِنْهُ طردها. وَإِن أوجب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، أَو إِبَاحَة، أَو ندب إِلَيْهِ، وَعلله بعلة، فَلَا يجب طردها.
وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذَا الْفَصْل، أصل لَهُم فِي التَّوْبَة، وَهِي من فروع التَّعْدِيل والتجوير وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: أَمر بالقبائح يعم وَلَا يتخصص.
وَلذَلِك قَالُوا: أَنه لَا تصح التَّوْبَة عَن قَبِيح، مَعَ الاصرار على آخر، وَيصِح التَّلَبُّس بِعبَادة، مَعَ ترك أُخْرَى، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا طائل تَحْتَهُ، والخوض فِيهِ لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ.
القَوْل فِي أَن الْقيَاس على عِلّة الحكم إِنَّمَا يَنْبَنِي على ثُبُوت الحكم بثبوتها، وَلَا يتحتم انتفاؤه عِنْد انتفائها.
اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور، أَنه لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس.
وَلَكِن إِذا اقْتضى الِاعْتِبَار والاستنباط تَعْلِيق حكم بعلة، وَالْحكم يثبت عِنْد ثُبُوتهَا وَلَيْسَ من شَرط الْعلَّة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها. بل يسوغ أَن تَنْتفِي تِلْكَ الْعلَّة، وتعقبها عِلّة أُخْرَى، فِي اقْتِضَاء قبيل الحكم الأول.
وَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن من شَرط الْعلَّة أَن يرتبط الحكم بهَا، حَتَّى يُؤثر وجودهَا فِي ثُبُوت الحكم، ويتضمن فقدها انْتِفَاء الحكم.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يتَحَقَّق تعلق الحكم بِالْعِلَّةِ على هَذَا الْوَجْه، فَلَو كَانَ الحكم يثبت عِنْد ثُبُوت الْعلَّة، وَلَا يَنْتَفِي عِنْد انتفائها، لما تحقق بَينهمَا تعلق.
مِمَّا لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ أَن تعلم أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء الْقَائِلين بالعلل. وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مُوجبَة لمعلولها لذاتها وعينها، وَلَا يتَوَقَّف كَونهَا مُوجبَة لمعلولها بعد تحقق وجودهَا، على جعل جَاعل وَنصب ناصب. وَهِي نَحْو الْعلم، الْمُوجب لمحل كَونه عَالما، وَالْقُدْرَة الْمُوجبَة لما قَامَت بِهِ كَونه قَادِرًا، إِلَى غير ذَلِك.
فَمَا هَذَا سَبيله يلْزم فِيهِ الطَّرْد وَالْعَكْس، فَمن قَامَ بِهِ الْعلم، لزم كَونه عَالما، وَمن لم يقم بِهِ الْعلم، لزم خُرُوجه عَن كَونه عَالما. فَمن صَار إِلَى أَن الأقيسة الشَّرْعِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. فَإِنَّهُ ذهب بهَا مَذْهَب الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَقد أوضحنا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام.
على أَنا نقُول: أَن الْعِلَل السمعية لَا توجب حكما لعينها إِذْ يسوغ فِي الْمَعْقُول تَقْدِير تَعْلِيق ضد حكمهَا عَلَيْهَا، بَدَلا من حكمهَا. وَلَيْسَت بموجبة لذواتها وَلكنهَا انتصبت إِمَارَة فِيمَا نصبت فِيهِ.
فَإِذا نصب ثُبُوت وصف علما فِي ثُبُوت حكم، فَلَيْسَ من شَرط ذَلِك أَن ينصب عَدمه أَيْضا علما فِي انْتِفَاء الحكم. وَلَكِن من شَرط كَونه علما لَا يتَحَقَّق إِلَّا وَيثبت الحكم.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، إِنَّا بعد مَا حققنا أَن الْعِلَل السمعية، لَا توجب أحكاما لذواتها، وَبينا مفارقتها للعلل، فقد تبين أَنَّهَا بمضاضاة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أولى، إِن لم يكن بُد من التَّشْبِيه.
ثمَّ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس وفَاقا. فَإِن حدث الْعَالم إِذا دلّ على وجود الْبَارِي لم يدل فَقده على فَقده - تَعَالَى - وَإِذا دلّ الإتقان على المتقن، لم يدل عدم الإتقان على جَهله. وَسَائِر الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تجْرِي على هَذَا الْمنْهَج فوضح بطلَان اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية.
وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَن نقُول: معاشر الْمُخَالفين خبرونا هَل الْقَتْل بِغَيْر حق وجوب الْكَفّ وَانْتِفَاء الْقصاص، مُوجب للْقَتْل؟
فَإِن قَالُوا: أجل .
قيل لَهُم: فَإِذا عقلتم وجوب الْقَتْل بقتل منعوت بالأوصاف الَّتِي يذكرهَا الْفُقَهَاء.
فقد نصبتم الْقَتْل عِلّة لوُجُوب الْقَتْل فَأوجب عَلَيْكُم قَود أصلكم أَن تَقولُوا: إِذا عدم الْقَتْل، انْتَفَى وجوب الْقَتْل. حَتَّى لَا يتَصَوَّر أَن يقتل الْمُرْتَد، وَلَا تَارِك الصَّلَاة، وَلَا الزَّانِي الْمُحصن.
وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْقَتْل لَيْسَ بعلة، فِي إِيجَاب الْقَتْل، فقد شققتم الْعَصَا، وخرقتم الْإِجْمَاع المنعقد من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ.
فَإِن قَالُوا: مَا ألزمتموه منعكس حَقِيقَة. وَلَكِن الْعَكْس فِي وَجْهَيْن وَنحن الْآن نبين مَذْهَب الْقَوْم. فأحد الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَكْس، الانعكاس الْمُطلق. وَهُوَ الَّذِي يجب فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة. فَإِذا قُلْنَا: الْعلم يُوجب كَون مَحَله عَالما، فَإِذا انْتَفَى قبيل الْعلم، لزم انْتِفَاء كَونه عَالما مُطلقًا، من كل وَجه، من غير تَقْيِيد.
فَهَذَا هُوَ الْعَكْس الْمُطلق. وَهُوَ لَا يشْتَرط فِي الْعِلَل السمعية.
وَأما الْعَكْس الْمُقَيد، فَهُوَ الَّذِي نقرره الْآن، فِيمَا ألزمتمونا. فَنَقُول: الْقَتْل يُوجب الْقَتْل، وَالرِّدَّة أَيْضا توجب الْقَتْل، وَكَذَلِكَ زنا الْمُحصن. وَلَكِن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل غير الْقَتْل الَّذِي توجبه الرِّدَّة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي قتل الْمُحصن الزَّانِي، فَهُوَ إِذا أَنْوَاع فِي الْقَتْل مُخْتَلفَة. فَخرج من ذَلِك، أَن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل - وَهُوَ قتل الْقصاص - يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْقَتْل فلئن وَجب قتل الرِّدَّة، فَهُوَ غير الْقَتْل الَّذِي يجب بِالْقَتْلِ قَالُوا: فقد تبين الانعكاس على التَّقْيِيد، فِيمَا ألزمتمونا. وَإِن لم يتَحَقَّق مُطلقًا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه هذيان بدينكم من جحد الْحَقَائِق والبدائه، فَإِن معولكم على قَوْلكُم أَن الْقَتْل مُخْتَلف. وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد ضَرُورَة. فَإنَّا نعلم أَن الْقَتْل فِي الرِّدَّة مجانس للْقَتْل فِي الْقصاص، وَلَا يخْتَلف المثلان فِي حقيقتيهما، فالمصير إِلَى ادِّعَاء اخْتِلَافهمَا جحد الضَّرُورَة.
وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يُقَال فِي العقليات، أَن الْعلم إِذا قَامَ بزيد أوجب كَونه عَالما، و إِذا قَامَ بِعَمْرو لم يُوجب ذَلِك. فَإِن كَون عَمْرو عَالما حكم آخر، يُخَالف كَون زيد عَالما. إِذْ قد تغاير المحلان وتباين الذاتان.
وَهَذَا يُفْضِي إِلَى طي الْحَقَائِق وقلب الْأَجْنَاس، فاستحال الْمصير إِلَى القَوْل بمغايرة الْقَتْل. فَلَا يبْقى لَهُم بعد ذَلِك معتصم، إِلَّا الِاعْتِرَاف بِعَين مَا أُرِيد بهم. وَهُوَ أَن يَقُولُوا: قتل الْقصاص يُخَالف قتل الْمُرْتَد، من حَيْثُ أَنه وَجب بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ وَجب بِالرّدَّةِ فَالْآن وضح الْحق ونطقتم بِهِ، وَلم تشعروا.
فَإنَّا أوضحنا تماثل الْقَتْل حَقِيقَة، فَإِذا اوجبتموه بعلة، فانفوه عِنْد انتفائها حَتَّى لَا يجب أصلا بِسَبَب آخر. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
وَمِمَّا يُوضح الْحق عَلَيْهِم أَن يَقُول: هَل تجوزون أَن يثبت الحكم الْوَاحِد بعلتين، لَو قدرت كل وَاحِدَة مِنْهَا على حيالها، لاقتضت الحكم؟
فَإِن قَالُوا: نجوز ذَلِك. وَلَا بُد مِنْهُ، نَحْو من يسْتَحق الْقَتْل بِأَسْبَاب، لَو انْفَرد وَاحِد مِنْهَا لأوجبه.
فَيُقَال لَهُم: فقد الْعلَّة عنْدكُمْ يُؤثر فِي انْتِفَاء الحكم، فَقولُوا: لَو انْتَفَت عِلّة مِمَّا لَو قدر ثُبُوتهَا، لكَانَتْ مُوجبَة، وَثبتت عِلّة انْتِفَاء الحكم، وثبوته من حَيْثُ انْتَفَت علته، فَيلْزم من ذَلِك التَّنَاقُض والتنافي.
فَإِن قَالُوا: فقد يُوجد مثل ذَلِك فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، فَإِنَّهُ إِذا قَامَت حياتان بِمحل وَاحِد، فانتفاء أَحدهمَا يُوجب كَون الْمحل مَيتا وَثُبُوت الثَّانِيَة يُوجب كَون الْمحل حَيا فَيلْزم فِي ذَلِك مَا قلتموه من التَّنَاقُض. قُلْنَا: هَذَا سُؤال من يجهل مَذَاهِب أهل التَّحْقِيق.
وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ أهل الْحق قاطبة، إِنَّه لَا يجوز أَن يقوم مثلان بِمحل وَاحِد، وهما متضادان على الْمحل تضَاد السوَاد وَالْبَيَاض. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَإِن استروحوا إِلَى مَا قدموه أَولا، من أَن الحكم يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْعلَّة على التَّقْيِيد وَإِن لم ينتف على الاطلاق. فقد أوضحنا أَن هَذَا سَاقِط من القَوْل بِمَا فِيهِ غنى، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.باب الْكَلَام فِي الْقيَاس:

الأقيسة تَنْقَسِم أَولا، إِلَى عقلية وسمعية.
فَأَما الْعَقْلِيَّة، فنبسط القَوْل فِيهَا، فِي غير هَذَا الْفَنّ.
وَأما السمعية، فقد قسمهَا القائسون من أوجه، وَنحن نذْكر جَمِيع مذاهبهم فِي وَجه التَّقْسِيم، ثمَّ ننعطف على الْمُخْتَار الصَّحِيح عندنَا.
فَأول مَا قسموا إِلَيْهِ الْعِلَل السمعية، الْجَلِيّ والخفي.
فَقَالُوا: الأقيسة تَنْقَسِم: فَمِنْهَا: الْجَلِيّ والخفي. وَزَاد بعض القائسين بَين الْجَلِيّ والخفي قسما ثَالِثا وَهُوَ الْوَاضِح. فَقَالُوا: الأقيسة ثَلَاثَة جلي وواضح وخفي.
ثمَّ اخْتلفت مذاهبهم فِي الْجَلِيّ والخفي.
فَذهب الأقلون مِنْهُم إِلَى أَن الْجَلِيّ هُوَ الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علته بطريقة نقطع بهَا من نَص أَو مَا يقوم مقَامه فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْقطع، وَهُوَ مثل أَن ينص صَاحب الشَّرِيعَة على نصب الشَّيْء عِلّة أَو ثبتَتْ ذَلِك بِاتِّفَاق من الْأمة.
وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس هُوَ الَّذِي لَا تثبت علته بطريقة يقطع بهَا، وَلَكِن يتَوَصَّل إِلَيْهَا تحريا واجتهادا. فَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ خَفِي عِنْد القائيسن ثمَّ مَا تتباين رتبها فبعضها أخْفى من بعض.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ المتلقى من فحوى قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فاعتبار سَائِر ضروب التعنيف بالتأفيف تمسكا بفحوى الْخطاب من الْقيَاس الْجَلِيّ وَكَذَلِكَ مَا يضاهيه. وَمَا يُصَار إِلَيْهِ استنباطا، فَهُوَ خَفِي وَهَذَا يداني الطَّرِيقَة الأولى.
وَذهب الْجُمْهُور من القائسين الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين إِلَى أَن الأقيسة الَّتِي تدْرك عللها تحريا واستنباطا، تَنْقَسِم إِلَى جلي وخفي.
فالجلي مَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ وتقل وُجُوه اللّبْس، وَلَا تقَابل الْأَشْبَاه فِي مداركها، فَمَا هَذَا قَبيلَة فيقود المستنبط إِلَى الْعلم الظَّاهِر بِتَعْيِين عِلّة الْقيَاس وَإِن لم يحصل لَهُ الْعلم الْبَاطِن الْمَقْطُوع بِهِ.
وَأما الْخَفي فَهُوَ الَّذِي لَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ. إِمَّا لتقابل الْأَشْبَاه وتجاذب الْأُصُول، أَو غَيرهَا من أَسبَاب الخفاء. فَمَا هَذَا سَبيله فَهُوَ خَفِي، لَا يتَضَمَّن الْعلم، لَا ظَاهرا وَلَا بَاطِنا.
وَالَّذين قسموا الأقيسة ثَلَاثَة أَقسَام، جعلُوا الْجَلِيّ مَا ثبتَتْ علته نصا وفسروا الْوَاضِح والخفي بِنَحْوِ مَا فسرنا الْجَلِيّ والخفي آنِفا. فَهَذِهِ مَذَاهِب الْقَوْم.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره، مَعَ مَا علمْتُم من أصلنَا فِي القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، أَن نقُول: كل قِيَاس ثبتَتْ علته نصا وتحققت طَريقَة تُفْضِي إِلَى الْقطع فِي تعْيين الْعلَّة فَمَا هَذَا سَبيله، فَهُوَ يودي التَّمَسُّك بِهِ إِلَى الْعلم وَالْقطع. وَتخرج الْمَسْأَلَة من حيّز الِاجْتِهَاد.
فَأَما إِذا لم يكن مَعنا طَرِيق يُفْضِي إِلَى الْقطع وَالْعلم، لتعيين عِلّة الْقيَاس، وَكَانَ الْفَزع إِلَى غلبات الظنون، فمهما حصلت غَلَبَة الظَّن للمجتهد بِمَا يستنبط من الْقيَاس، فَحكم الله الْأَخْذ بِمَا غلب عَلَيْهِ الظَّن قطعا. فَلَا يتَحَقَّق مَعَ هَذَا الأَصْل تَقْسِيم الْقيَاس إِلَى الْجَلِيّ والخفي قطعا على مَا قَالَه المتقدمون من الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَذَلِكَ أَن وَاحِدًا من القياسين لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم، فَإِذا لم يتَحَقَّق الْعلم فِي وَاحِد مِنْهُمَا، لم يَتَقَرَّر تباينهما. وَمَا ذَكرُوهُ من أَن الْعلم فِي الْقيَاس الْجَلِيّ يحصل ظَاهرا بعلة الأَصْل فَهُوَ وَاضح الْفساد، فَإِن الْعلم إِذا تحقق لم يخْتَلف فِيهِ الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على أَنه لَيْسَ فِي مجاري الأقيسة فِي الْمسَائِل الاجتهادية، طَريقَة تُفْضِي بسالكها إِلَى الْعلم. فادعاء الْعلم من أمحل الْمحَال.
فَحصل بِمَا ذَكرْنَاهُ ابطال القَوْل بتباين الضربين من الْقيَاس فِي قبيل الْعلم، وَتبين أَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يودي إِلَى الْعلم، فَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا غلبات الظنون، وَعِنْدنَا أَن الأقيسة السمعية كَمَا لَا توجب الْعلم لَا توجب غلبات الظنون. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام فِي أول الْكتاب.
فَرجع مآل الْمقَال إِلَى أَن الله عز وَجل اجرى الْعَادة بإيداع غلبات الظنون فِي اعتقاب الأقيسة الَّتِي تعبدنا بِالْعَمَلِ بهَا، ثمَّ لَا تستمر الْعَادَات فِيهَا، فَرُبمَا تحصل غَلَبَة الظَّن لبَعض الْمُجْتَهدين، بِالْقِيَاسِ الَّذِي يلْحقهُ مخالفونا بالخفي وَرُبمَا لَا تحصل غلبات الظنون بِالَّذِي يلْحقهُ بالجلي.
فَتبين لَك أَن الْفَصْل بَين القياسين لَا يَتَقَرَّر إِذا ورد إِلَى التَّحْقِيق ولعمرنا فَلَا ننكر على الْجُمْلَة أَن يكون الرب عز اسْمه، قد أجْرى الْعَادة فِي ضروب من الأمارات بِأَن تتسارع إِلَيْهَا غلبات الظنون. وتتباطؤ عَن بَعْضهَا، فَهَذَا الْقدر مِمَّا نسلمه على الْجُمْلَة، فأحط علما بذلك.

.فصل: لَو أجمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة مُعينَة، هَل يقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة:

فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ثَبت الحكم فِي عين من الْأَعْيَان، وَأجْمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة وَاحِدَة عينوها، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا، فَهَل تقطعون بِأَنَّهَا الْعلَّة؟
قُلْنَا: لَا نقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة، فَإِن اجماع كَافَّة الْأمة هُوَ المفضي إِلَى الْعلم وَالْقطع. والقائلون بِالْقِيَاسِ لَيْسُوا كل الْأمة. فَلَو قَدرنَا رُجُوع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم، وموافقتهم لِلْقَائِلين بِالْقِيَاسِ فِي القَوْل بِالْقِيَاسِ، ثمَّ اتَّفقُوا بعد ذَلِك قاطبة على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل، وَنَفَوْا مَا عَداهَا، فنقطع الْآن بِأَنَّهَا الْعلَّة عِنْد الله تَعَالَى إِذْ يتَعَيَّن نفي الْخَطَأ عَن أهل الْإِجْمَاع.
وَذهب جُمْهُور الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد من الْمُجْتَهدين، إِلَى أَن القائسين مهما أَجمعُوا على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل. فنقطع القَوْل بِأَنَّهَا الْعلَّة وَإِن لم يرجع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم. وَهَذَا بَين الْفساد. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة، وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى إطناب.

.فصل: أوجه تطرق الْخَطَأ إِلَى الْقيَاس:

اعْلَم أَن الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد ذكرُوا وُجُوهًا من الِاحْتِمَالَات فِي الأقيسة وَزَعَمُوا أَن الزلل فِيهَا يتَوَقَّع.
فَقَالُوا: إِذا قَاس القائس فرعا على أصل، بعلة فِي الأَصْل يعتقدها عِلّة فيعتور قِيَاسه ضروب من الِاحْتِمَالَات.
أَحدهَا: أَن يكون الحكم مَقْصُورا على الأَصْل، غير معد عَنهُ، فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَهُوَ بقياسه رام تعديته إِلَى الْفَرْع من الْمَقِيس عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الِاحْتِمَال: أَن يكون الأَصْل معلولا، وَالْحكم غير مَقْصُور عَلَيْهِ. وَلَكِن اخطأ القائس الْعلَّة الَّتِي هِيَ عِلّة عِنْد الله تَعَالَى، وحاد عَنْهَا إِلَى غَيرهَا.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل من وصفين، وَهِي عِنْد الله ثَلَاثَة أَوْصَاف وَقد أخل القائس بِالثلَاثِ .
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل، وَهِي غير مركبة فِي علم الله تَعَالَى، بل هِيَ ذَات وصف وَاحِد.
وَالْوَجْه الْخَامِس: أَن يَصح استنباطه لعِلَّة الأَصْل، وَلَكِن تخيل إِلَيْهِ تِلْكَ الْعلَّة متحققة فِي الْفَرْع، وَالْأَمر على خلاف مَا ظن.
فَهَذِهِ المداخل هِيَ الَّتِي مِنْهَا يتَوَقَّع فَسَاد الاستنباط.
وَزعم بَعضهم أَنه قد دلّ على المستنبطة وَجه سادس، وَهُوَ أَن إِثْبَات أصل الْقيَاس، مُخْتَلف فِيهِ، فَيجوز عدم ثُبُوته. وَهَذَا فَاسد لَا وَجه لَهُ.
فَإِن إِثْبَات الْقيَاس مَقْطُوع بِهِ. وَلَو سَاغَ تَقْدِير الِاخْتِلَاف بشبه لساغ أَن يقدر الِاخْتِلَاف فِي العقائد بِشُبْهَة. فَإِذا وضحت هَذِه الْجُمْلَة، فقد قَالُوا: أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ الَّذِي تبعد عَنهُ الِاحْتِمَالَات مَعَ إمكانها، والخفي هُوَ الَّذِي تقرب مِنْهُ هَذِه الِاحْتِمَالَات.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَنحن إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين فَيبْطل كل مَا قَالُوهُ من الِاحْتِمَالَات. فَإنَّا لَا نعتقد أَن فِي الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ الْفَرْع الْمَطْلُوب حكمه، عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَقد كلفنا العثور عَلَيْهَا بِعَينهَا وَمن أخطأها فَهُوَ مُخطئ فِيمَا كلف. وَلَكنَّا نقُول: لَيْسَ للْأَصْل عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن كلف كل مُجْتَهد أَن يعْمل بِمَا غلب على ظَنّه، وَجعل غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما مَقْطُوعًا فِي أَن الحكم عَلَيْهِ مُوجب غَلَبَة الظَّن.
وَهَذَا مِمَّا نستقصيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي كتاب الاجتهادات.